إرتأينا في هذا الملف تقسييمه إلى أجزاء وسنتحدث في الجزء الثاني كما تحدثنا في الجزء الأول عن هجرة الريفية نحو الغرب الجزائري، التي انطلقت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واحدة من الحركات السكانية الجديرة بالاهتمام في تاريخ الهجرات المتوسطية المعاصرة .
في هذا الجزء كما في الجزء الثالث سنواصل الحديث في مجموعة من المحاور أهمها الوجود الإسباني والموقف المتأرجح لفرنسا الإستعمارية و عن ظروف الرحلة وتكاليفها وإكراهات ولماذا الهجرة الريفيين نحو الجزائر ؟ .
الإحتلال الإسباني وحرية الملاحة .
إن الوجود الإسباني في الثغور المتوسطية جعلها شريكا أساسيا في الهجرة الريفية نحو الجزائر، وأكدت على دورها هذا منذ البدايات الأولى لانطلاقها، فقد أشار القنصل الإسباني في وهران في أحد مراسلاته بأن أهالي القبائل المجاورة لمليلية توجهوا إلى حاكم الحصن، في عام 1855م، بطلب يلتمسون فيه السماح بحرية الملاحة من تطوان إلى الموانئ الجزائرية . وقد منح حاكم مليلية جواز الملاحة (الباسبورط) لكل سفينة مقابل 200 ريال للمركب، وريالا واحدا لكل جواز سفر خاص بالركاب، وبهذه الطريقة حقق أهالي الريف الأهداف التالية :
* سلامة الملاحة الريفية من تدخل خفر السواحل الإسبان .
* ضمان حماية إسبانية لهذه الملاحة أثناء الرحلة للوجهة المقصودة .
* الحصول على جواز سفر إسباني يضع حدا لمشاكل المهاجرين في الجزائر .
لهذه الغاية، كان يتعين على القنصليات الإسبانية في الجزائر ووهران تقديم الدعم الكافي للمهاجرين القادمين من الريف كما لو كانوا إسبانًا، وتجنب كل أنواع التعقيد في التعامل معهم، بما في ذلك إعفاء أولئك الذين عادوا إلى بلادهم من التأشير على جواز السفر، كما سيعمل حاكم مليلية من جانبه في المستقبل على تمديد جوازات السفر، أو التأشير عليها لنفس المستفيدين فشجعت بذلك الإدارة الإسبانية الريفيين على استعمال الطريق البحرية، متوخية تحقيق مجموعة من المزايا، ومنها :
* تعزيز دور إسبانيا في المنطقة، من خلال القيام بدور الربط بين الدول.
* تطبيع العلاقات مع القبائل المجاورة وتوسيع النفوذ الإسباني فيها. وبسبب هذه المقاربة لحكام مليلية، كان
من المتوقع أن لا يعيش الحصنفي اصطدام مستمر مع القبائل .
كما شجعت السلطات الإسبانية الهجرة الريفية، أملاً في تحقيق مكاسب عسكرية؛ إذ أن تنظيم رحلات بحرية من الحصون إلى موانئ الغرب الجزائري، سيؤدي لامحالة إلى إفراغ الريف من أبنائه. الأمر الذي سيضعف المقاومة المحلية، إذا ما أرادت الجيوش الإسبانية التوغل خارج أسوار حصونها. وفي هذا الإطار، أقْدَم رئيس الحكومة الإسبانية والمتولي لحقيبة الدفاع في نفس الآن، الجنرال “أودونيل” (O’Donnel)31، على إصدار أوامره لحاكم مليلية لمنح تصاريح المرور رغبة منه في تحقيق الهدوء في المنطقة، وكذا منع تكرار أعمال القرصنة بالنسبة للقبائل الساحلية للريف. وتحقيقًا لهذه الغاية – وبحكم الأمر الواقع- تم الاتفاق على تمديد الحماية الإسبانية للمهاجرين32. وهذا ما اقترحه “خواكين بريث” (Joaquin Perez) المترجم بالقنصلية الإسبانية بوهران، في بداية العقد السابع من القرن 19م، في مذكرة موجهة إلى وزارة الشؤون الخارجية لبلاده .
ويظهر أن السلطات الإسبانية، تمكنت من تحقيق أهدافها، من خلال دور الحصون في الهجرة الريفية إلى الغرب الجزائري، بتعزيز العلاقات بين القبائل وإسبان الحصون، خصوصا لحاجة الريفيين إلى المراكب الإسبانية للإبحار نحو الجزائر بسبب عدم قدرة القوارب الريفية على الإيفاء بالغرض، ولحاجتها لجوازات مرور إسبانية، أو على الأقل تأشير سلطات الحصن عليها، من أجل الدخول إلى الجزائر.
ورغم المنع الذي أصدرته السلطات الفرنسية في الجزائر لإنزال الريفيين القادمين من الحصون بتصاريح إسبانية، واصل حاكم مليلية منحها، علما أن تقارير القنصل الإسباني في وهران كانت ضدها36 للضغط الذي مارسته عليه السلطات الفرنسية لوقف تيار الهجرة عبر الحصون. وعبرت أصوات إسبانية أخرى عن رغبتها في خفض الهجرة الريفية المتجهة نحو الغرب الجزائري لكونها ستساهم في إفراغ القوة البشرية من المنطقة، وهو ما سيؤثر في إسبانيا الساعية إلى السيطرة على شمال المغرب، والتي ستكون في حاجة إلى هذه السواعد البشرية للاستغلال الجيد لمنطقة نفوذها .
عموما، إن الدعوات الهادفة إلى الحد من الهجرة الريفية إلى الجزائر انطلاقا من الثغور واجهتها السلطات الإسبانية بآذان صماء؛ فقد واصلت القنصلية الإسبانية في وهران توفير الحماية للرعايا المغاربة الذين يقصدون وهران في السفن الإسبانية، بوثائق مسلمة في مليلية .
وبعد إحكام السيطرة على منطقة نفوذها في شمال البلاد، عملت السلطات الإسبانية على تشديد الرقابة على تدفق المهاجرين؛ إذ شنت في سنة 1928م حملة دعائية مكثفة ضد تدفق الهجرة الموسمية نحو الجزائر لصالح الجنوب الإسباني في موسم قطف الزيتون، لكن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في الأندلس ستنسف هذه المبادرة .
كما أقدم المراقبون الإسبان في المغرب عام 1930م على وضع لوائح المهاجرين الريفيين الموجودين في الجزائر بعناية، علاوة على تحكمهم وبشكل دقيق في تحركات الأهالي، في محاولة لوقف هذه الحركة، أو على الأقل التخفيف من أهميتها. لكن هذه الإجراءات تزامنت مع ضعف المحاصيل الزراعية في الريف، وما ترتب عنها من مشاكل سوسيو- اقتصادية، فطالب قواد المنطقة بمنح المزيد من حرية تنقل الريفيين41. كما تجدر الإشارة إلى أن تغيير النظام السياسي في إسبانيا بإحلال الجمهورية محل الملكية، لم يغير شيئا فيما يخص موقف سلطات الحماية الإسبانية من مسألة الهجرة الريفية .
الموقف الفرنسي المتأرجح
جمعت الريفيون بالغرب الجزائري علاقات متميزة، غير أن التنافس الفرنسي-الإسباني حول مد النفوذ إلى منطقة الريف جعل من الهجرة الريفية انطلاقا من الثغور المحتلة تلقى معارضة الإدارة الفرنسية؛ إذ أشار قنصل إسبانيا بوهران إلى أن السلطات الفرنسية أبلغته، رسميا وفي مناسبات عدة، بالقرار الذي اتخذته السلطة العليا للجزائر بعدم السماح للريفيين بالدخول إلا بجوازات سفر مسلمة من قبل سلطات تعترف بها فرنسا.
وقد أعطى الاصطدام العسكري الإسباني– المغربي في تطوان، سنة 1859م، إشارة قوية لفرنسا حول المطامع الإسبانية لفرض الهيمنة على المنطقة، مما زاد من تحفظ السلطات الفرنسية؛ ففي برقية للقنصل الإسباني في وهران، مؤرخة في 27 سبتمبر 1859م، موجهة إلى وزارة خارجية بلاده، تشير إلى أنه، بموجب أوامر عليا، تم منع نزول المغاربة القادمين من مليلية إلى ميناء وهران وكذا موانئ هذه المقاطعة على متن سفن إسبانية، وبجوازات سفر صادرة من قبل رؤساء قبائل الريف، بالعطف من السيد حاكم مليلية، نظرا لبطلان هذه الوثائق المسلمة من قبل رؤساء القبائل الذين لا يحق لهم إصدارها
حاولت فرنسا تبرير موقفها من الهجرة الريفية القادمة من الثغور بالحفاظ على حيادها في النزاع المغربي-الإسباني، ولهذا منعت دخول الريفيين على ظهر السفن الإسبانية إلى المياه الفرنسية45. كما تخوفت فرنسا من حرب تطوان، التي من شأنها أن تؤدي إلى نزوح بحري للأهالي نتيجة ظروف الحرب. وفي الواقع، بدأ يصل إلى وهران عدد مهم من اليهود انطلاقا من تطوان وطنجة، مما دفع بالسلطات الفرنسية إلى الحد من ظاهرة الهجرة الريفية انطلاقا من مليلية .
ويظهر أن فرنسا استهدفت بالأساس من وراء هذا الإجراء، التقليل من تأثير إسبانيا في الريف الشرقي، لذا لم تسمح لغريمتها بتشجيع المهاجرين إلى مستعمراتها في الجزائر، فمنعت دخول الرعايا المغاربة إلى موانئ الجزائر لغير الحاملين لجواز السفر الصادر عن السلطات الشرعية للمخزن47. كما حاولت السفارة الإسبانية في باريس –جاهدة- إقناع السلطات الفرنسية من أجل السماح بدخول المغاربة بجوازات السفر التي تم استصدارها في مليلية. بينما أصرت السلطات الفرنسية على أن هذه الهجرة ستتم وفقا للمعايير الدولية، من خلال جوازات سفر مسلمة من قبل السلطات الشرعية للمخزن، ومؤشر عليها من لدن القنصلية الفرنسية في المغرب48. كما عملت السلطات الفرنسية في الجزائر على عرقلة عودة الريفيين بحرا نحو ميناء مليلية، الأمر الذي حذا بأهالي الريف خاصة من قلعية إلى رفع شكواهم إلى القنصلية الإسبانية بوهران لتأمين العودة البحرية إلى ميناء مليلية .
وفي مقابل هذه الهجرة انطلاقا من الثغور، اقترحت الإدارة الفرنسية على الريفيين طريقا بديلا وفقا للشروط التالية :
* استعمال ميناء نيمور القريب من الحدود المغربية، كميناء لدخول المهاجرين؛
* 50 يقصد بالمخزن أو الجهاز المخزني السلطة المركزية المغربية، ولمزيد من التفصيل ينظر : مصطفى، الشابي ؟
* إلزامية جوازات السفر التي يتم تسليمها من قبل المخزن .
* رفض التأشيرات الإسبانية، وإحلال محلها أخرى مسلمة من قبل القنصل العام لفرنسا في طنجة، أو من قبل وكلائه .
* قبول المهاجرين المغاربة غير الحاملين للوثائق، في حالة عدم تقديم أي وثائق إسبانية .
إن تداخل المصالح الفرنسية، في الهجرة الريفية إلى الجزائر عبر الحصون الإسبانية، جعل موقفها متأرجحا بين المنع والموافقة والتحفظ. وعموما، ورغم الحظر المبدئي للهجرة الريفية من قبل السلطات الفرنسية، سيتم التساهل معها للأسباب التالية :
* تفضيل الهجرة البحرية المراقبة والانتقائية مقارنة مع الهجرة البرية، لكون الذين يختارون المسلك البحري يخضعون للتفتيش والمراقبة .
* الطلب المتزايد على اليد العاملة الريفية، في ظل تزايد استثمار الرأسمال الفرنسي الهادف لاستغلال الجزائر، من خلال الشروع في ورشات تروم تعزيز البنية التحتية والتوسع الزراعي، فأصبحت فرنسا في حاجة إلى اليد العاملة لعدم كفاية العمالة الإسبانية بالخصوص، والمهاجرين الموسميين الأوربيين عموما. هذا في الوقت الذي لم يظهر فيه الأهالي الجزائريون سوى حماسٍ قليلٍ للعمل في مزارع المعمرين الفرنسيين .
وكان العمال الريفيون في وهران يتمتعون بسمعة جيدة، فهم مسالمون، ومثابرون، ولهم القدرة على تحمل الأعمال الشاقة؛ إذ كان المعمرون الفرنسيون راضين عما ينجزه الريفيون الذين يقومون بأي عمل يطلب منهم، دون تذمر، فهدفهم الوحيد هو الحصول على العمل، ولفترة طويلة لضمان موارد اقتصادية إضافية للعيش.
وفي هذا الصدد، أخبر السفير الإسباني في باريس حكومته، في سبتمبر 1860م، أن من الأسباب التي جعلت فرنسا تسمح بدخول الريفيين الذين لا يتوفرون على الوثائق إلى الجزائر، هو “حسن سلوكهم”. فسنة بعد أخرى، كانت تظهر حظوة الريفيين لدى المعمرين الفرنسيين، فحافظوا على مناصب عملهم. كما أشار الأمين العام للغرفة التجارية بوهران في بداية القرن العشرين “دشو” (Déchaud) إلى صعوبة الاستغناء عن اليد العاملة المغربية. وهذا ما جعل السلطات الفرنسية تتعاطى بإيجابية مع الهجرة الموسمية الريفية نحو الجزائر .
ظروف الرحلة البحرية للهجرة الريفية نحو الجزائر
لماذا الطريق البحري للهجرة الريفية؟
لتفادي مخاطر الطريق البري، فضّل قسم هام من المهاجرين المسلك البحري، حيث يضمن سفرا مريحا نسبيا، بالمقارنة مع الهجرة برا؛ إذ – وبعد ثماني ساعات من الإبحار من مليلية- يصل المهاجرون إلى وهران مباشرة بينما كانت الرحلة البرية “تستغرق عدة أيام، يتمكن بعدها العمال من ولوج المنطقة الوهرانية عبر طرق ومسالك معروفة لديهم وبعيدة عن مراكز المراقبة في الحدود”. وحرمت هذه الإجراءات الآلاف من سكان الريف من التوجه إلى العمل بالجزائر، وكانت أية محاولة للتسرب عبر حدودها محفوفة بالمخاطر، حيث كان الجنود والمخازنية لا يترددون لحظة واحدة في إطلاق النار على كل من حاول ذلك .
ولم يكن البحث عن الراحة هو وحده المتحكم في هذا الاختيار، ولكن أيضا الخوف من السرقة في حالة عودتهم مرورا على القبائل الفاصلة بين وهران والريف، ذلك لأنّ الرحلة البرية لم تكن دائما آمنة، خاصة أثناء العودة. وقد أشار “هنري دوفيري” (Henri Duveyrier)، إلى أن هذه الرحلات كانت تتم على شكل مجموعات، لتفادي المخاطر، أو كان يتم الالتفاف حول أحد الشرفاء، للحصول على مزيد من التأمين على حياتهم ومدخراتهم؛ ولكن رغم ذلك، لم يكن ليمنعهم من التعرض للاعتداء والسلب؛ أما في الحالات التي يسود فيها الأمن في الطريق البري بين الجزائر والريف، فأغلب المهاجرين كانوا يختارون المسلك البري، وهذا ما يمكن أن نستشفه أيضا من خلال هذا المقال الوارد في يومية تلغراف الريف الصادرة في مليلية خلال هذه الفترة، والذي جاء فيه :
“كان فيما نعلمه أن أهل الريف الذين تذهب منهم كل عام ألوف لأجل الخدمة في وهران، لا يتجسرون أن يسافروا برا بل يقصدون أولا مليلية ومنها يركبون، وأما الآن فيذهبون أفواجا أفواجا يقطعون مجاوز كبدانة وبني زناسن القبيلتين اللتين كانتا فيما مضى لا يكاد أن يفوت في جوهما الطير، وذلك بفضل عساكر إسبانيا الموجودة في رأس الما إلى ملوية ثم عساكر فرنسا”
. إذًا فالوجود الاستعماري (الفرنسي والإسباني) في الشمال الشرقي للمغرب، قد حد من سطو القبائل، وقلل من اللصوصية التي كانت تؤرق المهاجرين برا، وهو ما خفف الضغط عن الطريق البحري .
إكراهات الرحلة البحرية
رغم الامتيازات التي يمنحها الطريق البحري للهجرة الريفية نحو الجزائر، بالمقارنة مع نظيره البري، كان بدوره محفوفا بمجموعة من الإكراهات، وأبرزها عملية النصب والاحتيال التي يتعرض له المهاجر من طرف السماسرة الممثلين للشركة المالكة للسفن66. هذا إلى جانب عدم إيفاء وكلاء السفن بالتزاماتهم بسبب تأخر وصول السفن في ميعادها، كما حدث في 19 ماي 1907م للباخرة “سودان” (Soudan)، مما اضطر السلطات العليا في مليلية للتدخل لحل المسألة.
ولم يكن الركوب على ظهر السفن يعني تأمين رحلة مريحة أمام لجوء أرباب السفن إلى الرفع من عدد الركاب لمضاعفة أرباحهم. وقد أشار القنصل الإسباني في وهران إلى أن حمولة السفن الواردة من الحصون تتجاوز ضعف الركاب المسموح بها، كما حدث في ديسمبر 1862م، بالنسبة لسفينة “سول” (ElSol) المسجلة لشركة (Torrevieja)، التي تصل سعتها فقط إلى 19.5 طن، في حين شحنت أكثر من قدرتها إلى حد جنبات السفينة.
حالات كهذه دفعت بالقنصل الإسباني في وهران للكتابة إلى مدريد لحث سلطاته العليا على قطع دابر هذه الظاهرة، وقد تم حظرها بالفعل من قبل السلطات الفرنسية، بالرغم من التساهل في الممارسة69. وأمام جشع أرباب السفن، كان مصير البعض منها الغرق، ففي 29 جوان 1868م غرق القارب “سانتا تيريسا” (Santa Teresa) قبالة جزر كوبدانة وعلى متنه الأهالي المتجهون إلى الجزائر، فتم إنقاذ 24 منهم بالإضافة إلى الطاقم، بينما غرق 34 شخصا .
كما ألقت المناوشات التي كانت تظهر بين طاقم السفينة والركاب من حين لآخر بظلالها على راحة المهاجرين، ففي 7 جويلية 1886م، وصلت إلى مليلية الباخرة “روسريو” (Rosario) قادمة من وهران، وعلى متنها 175 من الأهالي، وقد كانت متجهة إلى طنجة. وأمام تعطلها، رغب قائد الباخرة في إنزال الركاب لإصلاحها، لكنهم رفضوا ذلك قطعيا، فاندلعت أعمال شغب في محاولة لإجبار قائد السفينة على مواصلة الرحلة، مما اضطر القائد إلى طلب المساعدة من حاكم مليلية الجنرال “مسياس” (Macias)، الذي لبى النداء فقام بإرسال زورق مسلح. وقد تطورت الأحداث بشكل مأساوي، إذ وبمجرد أن اقترب الزورق، رماه الأهالي بأحجار الفحم الحجري، وأدى ذلك إلى إصابة خمسة أفراد من طاقم الزورق، الذي رد بدوره باستعمال القوة، فأسفر الحادث عن مقتل أحد الأهالي. أمام هذا الوضع، قرر “مسياس” إنزال الأهالي من السفينة بالقوة ثم أفرج عنهم بعد يومين، بينما أبقى على 13 من متزعمي الشغب، الذين تم إرسالهم إلى طنجة .
لم تتوقف مصاعب الرحلات البحرية عند هذا الحد، فقد نشرت جريدة “تلغراف الريف”، ليوم الخميس 21 ماي 1908م، مقالا باللغة العربية معنونا “المروك ببادس”، ورد فيه : “خلال هذا الأسبوع أرسى المركب الفرنسوي بجزيرة بادس72 لحمل المروك لوهران. فحضرت بالمرسى نحو ألفين نسمة وجعلوا يطلبون من رايس المركب أن يحملهم وهو ممتنع، ووفد هناك الوزير المعظم السنيور بي نوب فطلب المروك منه أن يتوسط لهم مع رايس المركب في تخفيف الكرا عليهم ففعل وساعده رب المركب فركبت المروك، ولما استقروا بالمركب أفشي أحدهم بأن ذلك المركب نفسه قد كان حمل ماية وسبعين نفسا من تلك الأشخاص لأجل الخدمة بوهران ولما توسط في البحر ذهب بهم للدار البيضا ليقاتلوا المسلمين، فلما سمعوا كلامه اجتمعوا على صاحب المركب وطلبوا منه أن يرد لهم دراهيمهم وينزلوا ففعل صاحب المركب ونزلوا للبر ورجع المركب خايبا خاليا من الركاب (…)”73. قد يكون هذا مجرد حادث مفتعل ممن كانت له مصلحة في إثارة الفتنة على ظهر هذه السفينة، إلا أن التأثير النفسي لمثل هذا الحادث على الأهالي يبقى أكيدًا، لكونهم وجدوا أنفسهم في لحظة يتجهون نحو المجهول.
كما كان المهاجرون ضحية للأوبئة الفتاكة، فقد جاء في رسالة مخزنية جوابية موجهة بتاريخ 27 جويلية 1884م، إلى كبير المحلة بقصبة جنادة على حدود مليلية، أن المراكب التي وردت من وهران منعتها السلطات الإسبانية من الرسو بميناء مليلية، خوفا من انتقال الوباء إليها من الجزائر الفرنسية بواسطة العمال الريفيين العائدين على متن تلك المراكب، فاضطرت تلك المراكب تغيير مسارها نحو ساحل قلعية لإنزال الأهالي74. مع الإشارة إلى أن الازدحام في السفينة يسهل عملية انتقال العدوى بين الركاب.
وبذلك لم تكن الرحلة البحرية أقل خطرا من نظيرتها البرية، وهذا ما دفع بآلاف الريفيين، المتجهين للحصاد في الجزائر، إلى السفر برا، ليس فقط بسبب ارتفاع أسعار التذاكر، ولكن خوفا من الحوادث البحرية75، خاصة أمام تكرار حوادث الغرق في البحر
تكاليف الرحلة البحرية
اختلفت تكاليف الرحلة البحرية إلى الغرب الجزائري من سنة لأخرى، وكذا حسب الفصول والأيام، تبعا لقانون العرض والطلب، وكذا لقوة المنافسة بين شركات النقل البحري. إذ نظرا للمنافسة بين السفن، كان يتم الخصم من ثمن التذاكر، فمثلا تم تخفيض بسيطتين(2 Pesetos) لكل تذكرة في نهاية أفريل من سنة 1906م77. وأمام شراسة المنافسة، تم التوصل في بداية شهر ماي من السنة ذاتها، إلى اتفاق بين ملاك السفن، لتحديد السعر في 12.5 بسيطة، للأهالي المتجهين نحو الجزائر. هذا في الوقت الذي اعتقد فيه الكثير من المهاجرين أن الرحلة ستكلف ما بين 2 و3 بسيطة، كما كان الشأن في الأسبوع الماضي (الأسبوع الأخير من أفريل عام 1906)، ولدخول هذا الاتفاق حيز التنفيذ، أقفل الريفيون عائدين إلى ديارهم، في انتظار انخفاض الأسعار .
وبالفعل، أقلت السفينة “هلبتيا” (Helvetia) و”نورما” (Norma) 625 ريفيا بـ 12.5 بسيطة للتذكرة الواحدة. وأشارت جريدة تلغراف الريف، إلى أن هشاشة وضعية الريفيين البادية على وجوههم وملابسهم كان من شأنها أن تحرك الرحمة في القلوب، وجعلت السيد “برناردي” (Bernardi) المعروف في عالم الأعمال، على استعداد لتسهيل سفرهم بتخفيض ثمن تذاكر السفر على متن السفينة التي يملكها
لكن، في الواقع، لم يكن الدافع إنسانيا بقدر ما كان اقتصاديا لعزوف الأهالي عن شراء التذاكر لغلائها. حيث أن الكثير منهم لم يكن يتوفر على ثمن التذكرة فكانوا يلجؤون إلى الاستدانة من غيرهم إلى غاية العودة من الجزائر بعد أن يحصل كل واحد على نحو خمسة دورو فرنساوية يدخل بها على أهله ومنهم من رجع عليه العدة المذكورة دينها استسلفها أيام سفره بين كرا المراكب ومأكوله ومشروبه. وبالتالي فإن هذه الفئة لم يكن بمقدورها الحصول على التذكرة بسعر مرتفع، بينما من كانت إمكانياته تسمح بذلك، فلن ينتظر في مليلية أكثر ويُعَجل بالركوب .
يظهر من خلال المبيان الارتفاع الذي عرفته أسعار التذاكر ما بين بداية شهر ماي من سنة 1906م إلى نهايته، مع انخفاض مهم خلال نصفه الأول، رغم أن شهر ماي يعد فترة الذروة بالنسبة للهجرة الموسمية لأهالي الريف إلى الجزائر. وقد يعود هذا إلى شدة المنافسة بين وكلاء السفن الذين فشلوا في التوصل إلى تحديد سعر ثابت للتذاكر. فانخفضت بذلك تذاكر السفر بحرا من ميناء مليلية إلى وهران لإقبال الأهالي عليها، فركب منهم عدد كبير نحو الجزائر. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المنافسة بين وكلاء السفن بلغت أحيانا حدودًا غير معقولة بقيام السماسرة بتخفيض كبير في سعر التذاكر، إلى أن وصل ثمنها بسيطة واحدة ونصف .
غير أن بلوغ موسم الهجرة ذروته خلال نهاية شهر ماي، قد أنعش أسعار التذاكر لتلامس 8 بسيطة، بعدما “تداركت الجموع من أهل الريف بأضعاف ما سلف وغصت الطرق آخذين في الركوب لوهران” .
في حين أن تفاهم الشركات فيما بينها، يجعل أسعار التذاكر تستقر، خاصة في ظل تزايد الراغبين في المغادرة إلى الجزائر، فبيعت التذاكر في منتصف ماي 1908 بـ 10.5 بسيطة. لكن هذا الانتعاش في الأسعار لم يستمر طويلا، فتوافد سفن جديدة على الميناء أشعل المنافسة، في الوقت الذي رفض فيه الأهالي الركوب وفضلوا الانتظار أملا في تراجع الأسعار بعدما تغيرت شركات النقل كما دفعت الأسعار المرتفعة للتذاكر بالعديد من الأهالي للعودة إلى ديارهم .
كما اختلف أيضا سعر التذاكر من ساعة إلى أخرى، في اليوم الواحد. ففي التاسع من ماي 1913م، تداولت التذاكر بـ 8 بسيطة، وبعد منتصف النهار بدأ ثمنها في الانخفاض، إذ نجح المتأخرون من اقتناء التذاكر بـ 4 أو 5 بسيطة.