في السابق كانت العوامل الإقتصادية، ومستوى المعيشة المتدني، والمعدم في أحيان كثيرة. هو السبب الرئيسي لإتجاه الفتيات الفقيرات من مجتمعنا نحو المتاجرة بأجسادهن وإقتحام أوكار الدعارة السرية، أو تنظيم ذلك عبر شبكة المعارف التي يتدرجن فيها. فكان وازعهن الأخلاقي هو فقرهن المدقع، الأمر الذي يبدو منطقيا من عدة زوايا – لعل أبرزها هو الإنعدام التام لقطاعات الشغل في مناطق كثيرة، وقلتها في مناطق أخرى، وتفشي البطالة عند شريحة مهمة من الفئات النشيطة، التي لا تستطيع إستثمار مجهودتها في أي عمل يومي مهما كان شاقا، فما بالك بالوظائف الرسمية والخاصة…
ظروف كثيرة طبعت هذه المهنة المثيرة للجدل، والتي مهما كانت مبرراتها الأخلاقية أو أسبابها، نتفق على كونها بسبب الفقر وتبعاته. وهذا منذ فجر التاريخ، كونها من بين أقدم المهن التي شغلتها البشرية.
مع تغلغل مظاهر العولمة داخل مجتمعنا “المحافظ نوعا ما” وإنتشار مواقع التواصل الإجتماعي، التي أصبحت جزء لا يتجزأ من نمط عيشنا. ظهرت لدينا شريحة مجتمعية مهمة تتبنى “الحداثة” كحل إجتماعي، تطمح به إلى القطع مع غالبية الخصوصيات الإجتماعية الكائنة، وكل ما هو سائد، بدعوى الإنفتاح والتقدم الحضاريين، ضاربين عرض الحائط بكل القيم الإجتماعية “الرجعية” (إيجابية كانت أو سلبية). حيث أن هاته الشريحة الإجتماعية الجديدة، التي تشكل غالبيتها من الشباب المتشبع بالثقافة “النيوليبرالية” للحلم الأمريكي. وبقية الكهال المتأثرين بمد “فلسفة الهيبيزم” و الثقافة النسوية في سبعينيات القرن الماضي، من الذين كان لهم دور كبير في خلق هذه الشريحة الشبابية، المفتونة بالوصول لحياة أكثر حرية.
إن هذه المعطيات تبقى إيجابية، لخلق التوازن في أي مجتمع، خاصة كونها طورت لدينا أشياء كثيرة من بينها حسنا الفني في الموسيقى أو السينما… كما جعلتنا ننفتح تكنلوجيا وثقافيا على العالم…
كل هذه الأمور وأكثر؛ كسرت في السنوات القليلة الماضية حتى نمطية إمتهان الدعارة، التي كانت سابقا تمارس لأسباب إجتماعية بحتة. لتتحول مع موجة الحداثة هذه، إلى طرق مختصرة للإغتناء السريع، وبشكل خاص في المدن الكبرى.
فقد أصبحنا نلاحظ مجموعة من الفتيات، التي يعرف عنهن على موقع التواصل الإجتماعي “فيس بوك” بكونهن “حداثيات” دخولهن إلى عالم الدعارة، بدون أي سبب إجتماعي، كونهن غالبيتهن من أسر متوسطة أو ميسورة. ثم تشكيلهن لشبكات علاقات لتحقيق مآربهن الشخصية.
وبعكس عاهرات أوكار الدعارة السرية التي يزورها زبائن الجنس، أو عاهرات ‘الموقف’ عند حواف طرقات الضواحي… لا تحتاج “العاهرات الحداثيات” إلى الخروج من المزل، أو تكليف أنفسهن بالإستعداد للبحث عن الزبائن، حيث يكفيهن تحميل صور أجسادهن الشبه عارية على موقع “فيس بوك” بدعوى التصالح مع الجسد، وكونهن لسن “عورات” كما يتهمهن مجامع المتخلفين الإسلاميين، لفتح المجال “للجاضوغات” والرسائل الخاصة، التي تحملهن على وجه السرعة إلى منزل أحدهم، أو إلى غرف أحد الفنادق الفخمة!
إن الرادع الأخلاقي في حالتهن هذه غائب، لأن العاهرات الحداثيات عكس التقليديات منهن، تجاوزن نظرة المجتمع إليهن، فغالبيتهن “غير متدينات” أو يقدمن أنفسهن ك “لا دينيات” تمتلكن فلسفة خاصة بهن، تجعلهن يرفضن “وصاية الذكر” عليهن (إلا في حالة كونه زبونا محتملا طبعا). كما أنهن يمكن أن يكن “متعلمات” أو خريجات جامعة، أو قد تمتلكن “ماستر” أو “دكتوراه” في أحد الشعب كما في حالات كثيرة موجودة.
لذلك من الممكن إعتبار العاهرات الحداثيات، هن أيضا من ممتهنات ما يسمى ب “الدعارة الراقية” نظرا لرغبتهم الشديدة في الإغتناء السريع، دون ترك أي أثر سلبي على مسيرتهن أو سمعتهن الإجتماعية، حيث يخترن زبائنهن بعناية شديدة، والذين قد يكونون من طبقات إجتماعية ميسورة، أو مدراء لإحدى الشركات أو المؤسسات الخاصة، الذين تقدم لهم خدماتهن الجنسية، غاية في توظيفهن، أو درا للأموال السريعة إلى آخره من الفوائد التي تجلبها لهن هذه المهنة. كما يشترط أن يعرف على الزبائن كونهم “حداثيين” أيضا، لتسهيل عملية التعرف عليهم، وعدم فضحهن أمام “مجتمعنا المتخلف” كما يحببن تسميته…
إن المشكلة الرئيسية في كشفنا عن حيثيات “ظاهرة الدعارة الحداثية” هاته، ليست في الدعارة بحد ذاتها، كإختيار شخصي رغم عدم قانونيته، وتحفظاته الأخلاقية – بل في كونها وبعكس الدعارة التقليدية، دافعا مغريا للكثيرات من أجل إمتهانها، عبر إلغاء جميع القواعد الأخلاقية أو الدينية، وتشجيع الفتيات لبعضهن البعض (اللائي قد يصادف كون بعضهن قاصرات) من أجل القيام بها، لزعمهن بكونها لا تختلف عن الجنس العادي، الذي يمارس بالتراضي بين شريكين راشدين.
كما أن المشكلة لا تقف في هذا الحد فقط، بل قد تتفاقم لتخلق لنا جيلا كسولا ومدمنا لحياة الليل، وكل أنواع المخدرات، الأمر الذي سيسفه النسيج المجتمعي وقيمه، ويكسر كل الروابط الأسرية، ويخلق صراعات بين الأجيال، وبين الآباء والأبناء، وينبأ بمستقبل غير معروفة تبعاته، خاصة بالنظر لغياب أي نوع من الرقابة من أية جهة معلومة.
– أمين أوطاح.