لقد كنا ننشد الديمقراطية لعقود طويلة تقارب القرن، وفعلنا كل ما بوسعنا لتحقيقها، وإعلاء حقنا في الكينونة، والإدلاء برأينا، مثلنا مثل أي مجتمع يحترم نفسه.
كذلك بذلنا الغالي والنفيس، لأجل هذه الديمقراطية، منذ سنة 1898، وبعدها، عبر سلسلة وقائع وأحداث ملحمية، إنتهت بنا إلى هاتين السنتين الأخيرتين.
فأتى الفرج عبر موقع “مارك زوكربرغ” للتواصل الإجتماعي “فيسبوك”، الذي وفر لنا بديلا ديمقراطيا حيا، عبر تنقية “اللايف” (المباشر)، التي تتيح لنا و”أخيرا” حرية الإدلاء برأينا، والإجماع على كينونتنا الإجتماعية، وإيصال أصواتنا إلى بعضنا البعض بكل سهولة.
فاليوم لسنا في حاجة إلى “حمارة” الروكي الزرهوني، للتنقل عبر المداشر والمدن، من أجل تدبير أمورنا المحلية أو الإقليمية… فيكفي أن نقابل شاشات هواتفنا الذكية، للبوح بكل ما تجوده به قريحاتنا الجماعية والفردية.
غير أن هذا الأمر لم يحدث أبدا..! فعوض أن نجعل من هذه التقنية، منصة ديمقراطية للتعبير الحر – حولناها إلى شيء أشبه بمنابر متطرفة للتكفير؛ وأضحينا نعيش إنحطاطا غير مسبوق، في ما يتعلق بأخلاقنا العامة كريفيين!
حيث أصبحت هذه التقنية، مرتعا لكل هماز أثيم، يحاول أن يصفي حساباته الشخصية، الخاصة عبرها. ولكل إنتهازي، محترف في تجييش عاطفة العامة، لتحقيق مآربه المخفية والمعلنة… كما أصبحت منصة للنصب، والتسول، وإستعطاف الضمير الجمعي للريفيين، بشقيه الماديين والسياسيين. مستغلين الشعبية والحظوة التي حققتها هذه التقنية بالريف، بعد “الحراك الشعبي”. والتي يتابعها الكثيرون، حيث تبث يوميا عديد العروض المباشرة، لأفراد، يجمعون على التحدث بإسم “الريف”، وتفويض أنفسهم “قسرا” ناطقين بإسم الريفيين، مستغلين فراغ وقتهم، و “شرعية اللايف”، وتأثيرات الحراك الشعبي، إلى جانب بعض الجهل المتفشي في أوساط العامة… من أجل الركمجة على الأحداث، أو إشباع نرجسيات نفسية، غرضها الظهور كأبطال قوميين في عيون العامة.
ويا ليت الأمر يقف عند هذا الحد…
فقد أصبح هؤلاء “اللايفيون” يخلقون أعداء وهميين من قلب المجتمع، ويفسرون كل شيء على أهوائهم الخاصة، وعصيهم السحرية، التي تكفر وتلعن أي شخص مختلف.
الأمر الذي شوه “سايكلوجيا الريفيين” على المستوى الإفتراضي، وجعلهم يتوجسون من بعضهم البعض، وينجرفون إلى مستنقع الخوف من الآخرين، أو الذين يمارسون أشياء قد لا توافقهم. والأكثر منه، أن هذا قد جعل روحنا الجمعية مهددة بتشوهات رجعية، ومتزمتة، تعادي أي كان. وغلب على رأينا العام “بارانويا” جمعية، مريضة بنظريات “مؤامرة”، لم نعهدها من قبل. وتم إشغالنا بقضايا معقدة لا نفهم فيها أي شيء، ضائعين بين فيديوهات اللايف المختلفة، التي تهول لنا الأمور، دون أن يكون لنا رأي خاص بنا، وتصور لنا في أنفسنا صورة الفارس البطل، التي تجعلنا بمثابة الأحمق الإسباني “دونكيشوت”، الذي غرته أمجاد العصر الذهبي للفروسية، وراح متوهما، ومزهوا يحارب طواحين الهواء، التي تخيلها كعمالقة أشرار يحاولون النيل منه…
ريف بريس: أمين أوطاح